تاريخ
آخر تحديث بتاريخ: 3 سنوات

الديانة الزرادشتية تعرف عليها

منذ قرون خلت ، ظهرت في الأراضي الفارسية عقيدة دينية هي الديانة الزرادشتية سرعان ما ازدهرت وانتشرت بين ربوعها ، لتصير من بعد ذلك معلماً أساسيا ًمن معالم حضارة الفرس وإحدى ركائز تطورهم الثقافي وارتقائهم الروحاني .. 

والآن ،  وبعد آلاف السنين ،  لم يزل ذكر الإمبراطوريات الفارسية المتعاقبة  -وبخاصة الساسانية – مقترنا بتلك العقيدة الدينية العتيقة : العقيدة الزرادشتية…  فما هي الزرادشتية ؟ وكيف تأسست؟ وما طبيعة جوهرها الروحاني؟ وطقوسها التعبدية؟ ومن هو زرادشت  ، وكيف بدأت دعوته ؟ 

عبر السطور التالية ، سيصحبنا مؤلف المقالة التي بين أيدينا في رحلة عبر الزمن إلى حيث معبد الزرادشتية المقدس،  علنا نجد في رحابه إجابات على تلك الأسئلة و غيرها…

الديانة الزرادشتية :

تندرج الديانة الزرادشتية Zoroastrianism ضمن نطاق الديانات التوحيدية ، تم تأسيسها على يد النبي {زرادشت } في الفترة مابين 1000 -1500 قبل الميلاد، وبطبيعة كونها  ديانة توحيدية فهي تقول  بوجود إله واحد أعلى،  هو {  أهورامازدا } ، والذي يعني اسمه “سيد الحكمة ” ،  وهو خالق الكون وسيد الأشياء جميعاً و الحافظ لها،  والذي يدعو أتباعه لعبادته من خلال القول الحسن والعمل الصالح. و يطلق على الزرادشتية كذلك  “Mazdayasna” أي ” عبادة مازدا “.

أما عن أصول الديانة الزرادشتية وجذورها، فيرجح الباحثون أن ذلك البنيان الديني التوحيدي قد ولد أساسا من رحم ديانة فارسية أقدم تقوم على أساس تعدد الآلهة! ، حيث لم يكن أهورامازدا إلها واحدا وإنما كبير الآلهة ، وأن الحياة ليست سوى صراع بين قوى النور “الخير” وقوى الظلام “الشر” ، وهي الفكرة التي انتقلت فيما بعد إلى الزرادشتية التوحيدية. 

وعلى مدار قرون انتشرت الديانة الزرادشتية عبر الأراضي الفارسية واعتنقتها الإمبراطوريات المتعاقبة،  مثل الإمبراطورية الأخمينية ( 550-330قبل الميلاد ) ، و الإمبراطورية الفرثية ( 247 قبل الميلاد- 224 ميلادية ) ، إلى أن وصلت لأوج قوتها وازدهارها في عهد الإمبراطورية الساسانية  (224 – 651 ميلادية ) حيث أعلنها الساسانيون الدين الرسمي لدولتهم، إلا أن ذلك لم يحل دون ظهور وانتشار نحلة عقائدية – دائما ما يشار إليها في المراجع بأنها تعد من قبيل “الهرطقة”- انبثقت من قلب الزرادشتية لكنها حرفتها ، أطلق عليها  { الزرفانية} ، وهو ما سيأتي تبيانه لاحقاً. 

الديانة الزرادشتية

إلى أن جاء عام 651 ميلادية حاملاً معه الجيش العربي الإسلامي لبلاد فارس،  حيث أزيحت الديانة الزرادشتية عن عرشها كدين رسمي لتلك الربوع ، وتعرض الزرادشتيون للإضطهاد و القمع وتم تدمير الكثير من مراكزهم الدينية و معابدهم ، وتحويل بعض منها إلى مساجد. 

ومع ذلك،  نجت الديانة الزرادشتية ولم تتلاش  بفضل أتباعها ، الذين تراجعت أعدادهم بشكل كبير لكنهم ظلوا موجودين رغم كل شيء.

الأصول والبدايات :

من المرجح تاريخياً  أن العقيدة التعددية للفرس الأوائل-التي تولدت عنها الزرادشتية فيما بعد –  كانت قد تشكلت  وتبلورت بالفعل بشكل أو بآخر قبل وصولها إلى منطقة إيران في حوالي الألفية الثالثة قبل الميلاد،  ومع وصولها إلى تلك المنطقة واختلاط معتنقيها بأقوام العيلاميين و السوسيانا الذين كانوا يستوطنون تلك الربوع،  شهدت تلك الديانة تحولات عقائدية بفعل التأثيرات الفكرية والثقافية لتلك الأقوام. 

وكانت تلك العقيدة التعددية -أو الشركية كما يطلق عليها في بعض المصادر- تقوم،  كما هو واضح من توصيفها الديني، على فكرة تعدد الآلهة،  أي وجود مجمع  للآلهة يحكمه {أهورامازدا } ، حيث يتولى مجمع الآلهة هذا توجيه البشر وحمايتهم من خطر قوى الظلام التي يتسيدها { آنجرا مينيو } .

ووفقاً ل الديانة الزرادشتية ،  يتمثل الغرض من حياة الإنسان والهدف الأسمى لها في إتباع أهورامازدا و الإمتثال لتعاليمه و أوامره في مواجهة قوى الظلام ونبذ إغواءات  { آنجرا مينيو} .

خلق الإنسان :

أما عن الإنسان الأول،  فقد ورد في أساطير الديانة الزرادشتية أنه في البدء ،  قام أهورامازدا بخلق زوجين من البشر هما  { ميشا } و { ميشانا} ، وفي فردوسه الأعلى عاش الزوجان في سلام وانسجام ودعة ، إلى أن راح آنجرامينيو  يبث إليهما بوساوسه و يضلهما بأكاذيبه حتى أقنعهما بأنه هو من خلقهما و أنشأهما وأن أهورامازدا ليس  بالخالق  وإنما هو عدوهما ، فانساقا إليه وصدقا ادعاءاته ، فضلّا عن سبيلهما… فحكم عليهما أهورامازدا بالطرد من جنته والنفي إلى عالم الصراعات و الآلام ، جزاءا وفاقا لتصديقهما أكاذيب روح الظلام.  ومع ذلك،  قضى أهورامازدا بأن يبقى السبيل سانحا أمام سلالتهما و أحفادهما من البشر بأن يحيوا بحكمة حياة الخير إن هم اتبعوا تعاليمه وظلوا مخلصين له الولاء.  

أما عن شعائر تلك الديانة الزرادشتية وكيفية ممارسة طقوسها الدينية،  فقد ظلت مجهولة بالنسبة لنا نظرا لعدم وجود نص مكتوب يوضح معالمها. ومع ذلك،  فقد انتقلت بعض من جوانب تلك العقيدة إلى الديانة الزرادشتية ، ومن خلالها استطعنا التعرف على بعض من الملامح الكهنوتية المميزة لها ؛ حيث يظهر من خلال نصوص الديانة الزرادشتية أنه كانت هناك طبقة من الكهنة – عرفت فيما بعد بإسم “المجوس” – كانت تتولى مهمة الحفاظ على الشعائر الدينية و إقامة الطقوس،  وكان يتم التعبد إلى الآلهة في أضرحة مفتوحة عرفت ب ” معابد النار”  يتوسط مذبحها شعلة من النار المقدسة التي تنص التعاليم على أن تبقى موقدة دائماً و أبدأ كرمز للإله. 

وعلى خلاف ماكان سائداً في مصر وبلاد مابين النهرين،  لم تكن ثمة معابد للآلهة بالشكل المعروف  أو طقوس معقدة للتعبد في بلاد فارس،  وإنما كانت الأضحيات مثلاً – والتي كانت تتمثل على الأرجح في صنوف من الطعام أو الحبوب أو المقتنيات الثمينة – يتم تقديمها إلى الكهنة مقابل شفاعتهم لدى الآلهة،  وهو ماجعل طبقة رجال الدين تمسي واحدة من أغنى الطبقات الإجتماعية في المجتمع الفارسي و أكثرها قوة.

زرادشت

وفي ظل تلك الأجواء الدينية،  ولد زرادشت لأبوين من طبقة النبلاء، هما “بوروساسبا” و “دوغ دوفا”. و على الأرجح كان والده “بوروساسبا” ينتمي إلى فئة الكهنة، وقد عمل على أن يصبح إبنه كاهناً بدوره، حيث جرى العرف على أن يرث الأبناء مهن آبائهم ويخلفونهم بها. 

كذلك فقد أتاح الوضع الميسور للعائلة ومكانتها العليا للإبن الصغير أن يلتحق بسلك التعليم منذ نعومة أظفاره، بدلا من الاضطرار للعمل.  وكان لزرادشت أربعة إخوة، إثنان أكبر سناً منه، و إثنان يصغرانه في العمر، إلا أن المصادر التاريخية المتاحة لم تذكر أي معلومات إضافية عن أسرته ولا عن حياته المبكرة. 

وبالفعل إلتحق زرادشت بطبقة الكهنة، وفي عمر الخامسة عشر أصبح مساعدا لكاهن أكبر سنا، وترجح المصادر التاريخية أنه قد ترك منزل أسرته بعد ذلك ببضع سنوات، غالبا في سن العشرين، ليتابع مسيرته المهنية بشكل مستقل عنهم. 

وكان من بين الطقوس التعبدية التي لابد وأن زرادشت قد شهدها مراراً خلال عمله ككاهن، طقس القربان الحيواني، أي ذبح الحيوانات وتقديمها كأضحية للآلهة، وهو الطقس الذي كان يشرف عليه طائفة من الكهنة يطلق عليهم { كاربان}؛ إلا أن زرادشت لم يستسغ ذلك الطقس ولم تتقبله نفسه، وهو ما ظهر جلياً في وقت لاحق خلال دعوته الدينية بإعلانه رفض هذا الطقس ونبذه. 

تزوج امرأة اسمها “هافويه” أنجبت له بنتًا وولدين ، ثم بدأت الأسئلة الروحية تدور في ذهنه وبدأ يتسائل عن الخير والشر، وتمنى أنه لو يستطيع أن يحقق السعادة للناس كلهم، ويوجد خلاف حول سنة نزول الوحي على زرادشت، فالبعض يقول أنه كان في العشرين من عمره ، والبعض يقول أنه كان في الثلاثين من عمره ، والبعض يقول أنه كان في الأربعين.

الديانة الزرادشتية

زرادشت الناسك استأذن زوجته هافويه في أن يعيش بعيدًا عنها ناسكًا لفترة يفكر في الشر والخير، وانطلق إلى جبل “سابلان”، وعزم ألا يعود لبيته حتى يكتسب الحكمة، وظل هناك وحيدًا يفكر لشهور لعله يجد تفسيرًا للخير والشر، غير أنه لم يهتدِ لشيء، وذات يوم تأمل في غروب الشمس وحلول الظلام بعد النور، وحاول أن يكتشف الحكمة من ذلك، ورأى أن اليوم يتكون من ليل ونهار، نور وظلام، والعالم أيضا يتكون من خير وشر؛ لذلك فالخير لا يمكن أن يصبح شرًا، والشر لا يمكن أن يصبح خيرًا.

وإن الكهنة والسحرة الذين يعبدون الأوثان والأصنام لا بد أن يكونوا على خطأ؛ لأن معتقداتهم كانت أن الآلهة والأوثان التي يعبدونها هي آلهة الشر، وأنهم يتقربون إليها اتقاء لشرها ودفعًا له، وهم كذلك يتقربون إلى إله الشر ليصنع لهم الخير.

وظل على جبل سبلان يستوضح أفكاره، التي تخرج في بطء شديد كأنها ولادة متعثرة، وتزعم الأساطير أنه وهو واقف على الجبل رأى نورًا يسطع فوقه، وإذا به “فاهومانا” كبير الملائكة، قد جاء ليقوده إلى السماء ليحظى بشرف لقاء الرب، ويستمع إلى تكليفه بأمر النبوة، فصدع بالأمر، ثم قال بعدها: سأنزل إلى الناس، وأقود شعبي باسم أهورامزدا من الظلام إلى النور، ومن الشقاء إلى السعادة، ومن الشر إلى الخير.

الدين الجديد : 

فما إن تلقى زرادشت الأمر الإلهي، حتى راح يبشر به في حماسة و إخلاص، إلا أن بشارته قوبلت بالرفض والاستنكار من جانب الكهنة الذين استشعروا خطره وخطورة دعواه عليهم، فراحوا يضمرون له العداء ويكيدون له إلى أن باتت حياته ذاتها مهددة، واضطر في نهاية المطاف إلى الفرار. 

ومع ذلك لم تفتر حماسة النبي الشاب أو يتراجع عن أداء مهمته المقدسة، بل راح يبشر بالكشف الإلهي الذي تلقاه، وفي ذات الوقت أخذ يصلي ويتضرع إلى أهورامازدا، عله يتلقى منه إشارة تهديه إلى سبيله الصحيح في دعواه، وهي الصلوات التي ستشكل في وقت لاحق قسما جوهريا في النصوص الزرادشتية المقدسة التي تعرف ب { أفيستا}. 

ثم راحت الأيام تمضي بزرادشت ودعوته الدينية، إلى أن حطت به في بلاط ملك يدعى { كاشتاسب }، حيث وجد نفسه وقد انغمس في سجالات دينية مع كهنة البلاط في حضرة الملك لا لشئ إلا لتسليته!. 

ووفقاً لما جاء في الأفيستا، انتصر زرادشت على كل خصومه في تلك السجالات وفند كل حججهم التي ساقوها في مواجهته، وأثبت أمام الجميع صحة الوحي الذي أُوحي إليه وصدق الحقيقة التي يبشر بها. 

إلا أن ذلك لم يجلب عليه سوى مزيد من الشقاء، فقد كانت دعوته تمثل تحدياً صريحاً للنظام الديني السائد آنذاك، فأمر الملك بإلقاء زرادشت في غياهب السجون . ثم شاءت الأقدار أن يتمكن زرادشت وهو بعد سجين، وبمعجزة خالصة، أن يُشفي حصان الملك المفضل من داء الشلل، فرضي { كاشتاسب} وعفا عنه مطلقاً سراحه، ثم استدعاه إلى بلاطه من جديد وطلب منه أن يعيد إلقاء دعوته الدينية على مسامعه، وهذه المرة منحه الملك أُذناً صاغية جادة، ليصبح  كاشتاسب من بعد ذلك، وفقا لما تؤكده الأدبيات الزرادشتية، أول المؤمنين بدعوى زرادشت، ثم سرعان ما تبعه آخرون. 

ولم يقم زرادشت بتدوين أي من تعاليمه، وكذلك لم يفعل تلاميذه الأوائل وإنما كان يتم تناقل أقواله شفاهة لتحفظها صدور المؤمنين وترددها أفواههم أثناء إقامة الشعائر الدينية؛ ثم راحت تنتقل شفاهةً من جيل إلى جيل، إلى أن تم تدوينها. 

ومن غير المعروف لنا كيف وجد الدين الجديد سبيله للإنتشار من بعد الملك { كاشتاسب }، لكن الثابت تاريخياً أنه وجد رواجاً في زمن الإمبراطورية الأخمينية (  550-330 قبل الميلاد ) والتي كانت الطبقة الحاكمة بها تعتنقه. 

ومن المحتمل أن يكون زرادشت قد استمر في التبشير والدعوة لعقيدته حتى وفاته عن عمر ناهز السابعة والسبعين، حيث تزعم بعد المصادر من العصر الساساني أنه قد أغتيل على يد أحد كهنة دينه القديم. 

الرؤيا :

وكما سبق و أسلفنا، قامت دعوة زرادشت بالأساس بناءاً على الرؤيا التي أتته على جبل سبلان ، وكذلك الإشارات التي تلقاها إستجابةً لتضرعاته المتواصلة. واستنادا إلى تلك الرؤيا أيضا، قامت الديانة الزرادشتية على خمسة مبادئ أو أركان أساسية تمثل أعمدة بنيانه، ألا وهي :

  • أهورامازدا هو الإله الأعلى. 
  • أهورامازدا هو الخير المطلق. 
  • آنجرا مينيو هو العدو الأبدي لأهورامازدا وهو كذلك الشر الكلي. 
  • الخير يتجلى من خلال الأفكار الخيرة والقول الحسن والعمل الصالح. 
  • لكل إنسان الإرادة الحرة للإختيار مابين الخير والشر. 

وبناءً على الديانة الزرادشتية ، فإن أهورامازدا هو الإله الواحد الأبدي، والذي لم يخلقه أحد، وأن الآلهة الأخرى التي كان يُتَعَبَّد لها سابقاً ماهي سوى محض أطياف أو تجليات من روح الإله الأوحد، وبهذا، ماكان لتلك الآلهة الشعبية المعروفة، مثل { ميثرا} و { أناهيتا}، أن تُعبَد من بعد ذلك كآلهة خالدة جبارة، وإنما هي أرواح مُكَرَّمة يجوز تقديسها كتجلٍ لعظمة أهورامازدا و إحسانه. 

وهنا لابد وأن يُطرَح السؤال المنطقي : طالما أن الإله الواحد، الخير المطلق، هو الخالق للكون، فمن أين إذن جاء الشر؟ وما هو مصدر { آنجرا مينيو} الذي هو شر مطلق؟ 

بقيت تلك الإشكالية عالقة، غامضة لم توضحها نصوص الديانة الزرادشتية والتي يبدو من بعض مما ورد بها أنه كان ثمة معرفة مسبقة لدى الزرادشتيين بإجابة تلك الأسئلة وأنهم كانوا على دراية بأصل ومصدر آنجرا مينيو، ربما من خلال النصوص المقدسة للدين السابق على الزرادشتية والتي احتفظت ببعض من جوانب ذلك الدين. 

وسواء كان الأمر كذلك، أو أن بعض النصوص الأفستية كانت تحتوي على تفسير لمشكلة أصل الشر، ثم فُقِدت، يبقى الأمر المؤكد أن تلك الإشكالية لم تُطرَح للنقاش بشكل صريح حتى القرن التاسع عشر الميلادي. 

ومع ذلك، فقد سبق وظهرت العديد من الأطروحات لحل تلك الإشكالية، أبرزها ما قدمته “الزرفانية” والتي حلت مشكلة الخير/الشر بأن جعلت كل من أهورامازدا و آنجرا مينيو توأمين متكافئين في القوة وكلاهما مخلوق. إلا أن الزرادشتية-التوحيدية بالأساس – قد رفضت تلك الفكرة “الثنوية” ونبذتها تماماً. 

وقد حاول المستشرق الألماني مارتن هوج ( 1827 – 1876 ميلادية) تقديم حل لتلك المعضلة، يتمثل في القول بأن آنجرا مينيو ليس إلها مكافئا لأهورامازدا وإنما هو منبثق عنه، أو بمعنى آخر هو الطاقة السلبية المنبعثة عن فعل الخلق، وأن تلك الطاقة ليس لها قوة فاعلة، وأن كل مايتسنى لآنجرا مينيو الإتيان به – وفقا لذلك التفسير – هو محاولة التشويش على الكون وإعاقة صيرورته وتشويه النسق الكوني العظيم لأهورامازدا، وأن هذا التشويش هو ما أطلق عليه البشر :الشر، لكنه في حقيقة أمره ليس له وجود “فعلي “. 

الدنيا والآخرة في المعتقدات الزرادشتية :

ارتكزت الديانة الزرادشتية على قيمة جوهرية وقعت بها موقع القلب، ألا وهي :الإرادة الحرة للإنسان، فإذا إختار المرء أن يحيا وفقاً لتعاليم أهورامازدا وعلى هديها، عاش حياة مُرضِية حكيمة، أما إذا إختار لنفسه سبيلا آخر، فإنه يقع فريسة للقلق والمعاناة والضلال. 

وبناءً على الأركان الخمسة ل الديانة الزرادشتية – التي سبق وأسلفناها – يمكن للمؤمن أن يعبر عن إيمانه من خلال الركن الرابع تحديداً : “أن الخير يتجلى من خلال الأفكار الخيرة والقول الحسن والعمل الصالح” ، والذي يمكن تجسيده في الحياة الواقعية عبر أربعة معايير سلوكية إن سار المرء على هديها فقد عاش حياة خيرة كاملة :

  • تحري الصدق وقول الحق في كل وقت، والوفاء بالوعود دائما وأبداً. 
  • الإحسان إلى جميع الناس وفعل الخير لهم، خاصة للمحتاجين. 
  • إظهار المحبة للآخرين، حتى لهؤلاء الذين لايبادلون المرء المحبة بمثلها. 
  • التمسك بفضيلة الإعتدال في كل شئ، حتى في المأكل.

وقد ازدهر الإيمان الزرادشتي وانتشر من خلال السلوك الفاضل للمؤمنين الذين جسدوا بحق تلك المعايير السلوكية عبر تطبيق ثلاث قيم أساسية :

  • تحويل الأعداء لأصدقاء. 
  • تحويل الأشرار إلى صالحين. 
  • تعليم الجاهلين. 

ومن ثم فإذا عاش المرء في ظل تلك القيم ووفقا لنورها، فقد فاز ليس فقط في الحياة الدنيا، ولكن في العالم الآخر كذلك. عند هذه النقطة، يتوجب علينا أن نتوقف قليلاً لاستعراض ما أوردته الأدبيات الزرادشتية فيما يتعلق بالميلاد والموت وما بعد الموت… 

وفقا ل الديانة الزرادشتية ، حينما يولد الإنسان تقوم نفسه العليا {فرافاشي} بإرسال روحه { أورفان} إلى الجسد الذي سيقطع به رحلته الدنيوية في العالم المادي حيث يكون عليه الإختيار مابين أحد السبيلين : الخير أو الشر. وعند الموت، تمكث روح المتوفى في الأرض لمدة ثلاثة أيام بالقرب من جثته، بينما يتم إحضار كلب لحماية الروح خلال ذلك و إخافة الأرواح الشريرة لدرئها بعيدا عن الروح، فيما يقوم الإله بتقييم حياة المتوفى. 

ثم بعد انقضاء الأيام الثلاثة تعاود الروح “أورفان” الإتحاد بنفسها العليا “فرافاشي”، وترتحل نحو العالم الآخر عبر جسر” شينفات”الممتد فوق الهوة بين عالم الأحياء وعالم الأموات، حيث تلتقي بالكلبين المسؤولين عن حراستها، اللذين يرحبان بالأرواح التقية ويزجران تلك الشريرة. 

ثم تلتقي الروح بضمير المتوفى {داينا}، فإذا كان عادلاً تقياً في حياته، جاءه ضميره في شكل عذراء جميلة، أما إذا كان آثماً مثقلاً بالذنوب فإنه يتجلى له في هيئة عجوز قبيحة. وتقوم” داينا ” بطمأنة الروح الوافدة حديثاً إلى عالم الأموات ثم تقودها عبر الجسر إلى حيث الملاك {سروش} الذي يتولى حراستها وحمايتها من الهجمات الشيطانية. 

وعلى الجسر، الذي يتسع تحت أقدام الأبرار، فيما يضيق بالآثمين، يقود {سروش} روح المتوفى إلى حيث الملاك “راشنو” قاضي أرواح الموتى والمسؤول عن حسابهم، ليحاكمه. وبناءً على ماقدمت يداه في الحياة الدنيا يتحدد مصير المتوفى في الحياة الآخرة… فأما من تساوت كفتي أعماله الخيرة والشريرة، فإنه يتم إرساله إلى “هاميستاكان” أي المطهر، حيث يمكث هناك لحين نهاية الزمن وقيام الساعة حين تعاود كل الأرواح الإتحاد بأهورامازدا. 

وأما من عاش في نور الإله ووفقاً لتعاليمه، فرجحت فضائله ، فإنه يرتقي إلى الفردوس “دار الغناء”. أما الآثمون الذين فاقت شرورهم حسناتهم حتى أثقلتهم الآثام، فهؤلاء يسقطون من على الجسر إلى هوة الجحيم حيث “دار الأكاذيب”، ليتلقوا العقاب ويعذبون في الظلمات جزاءً وفاقاً لما اقترفت أيديهم في حياتهم؛ وفي غياهب ذلك الجحيم، ومهما تكن أعداد المحكوم عليهم بالعذاب الأخروي، فإن كل منهم يمكث في عذابه وكأنه يقبع وحده في قاع الجحيم. 

أما عن تكوين العالم الأخروي، فقد كان رأسياً متعدد الطبقات، حيث الجنة مكونة من درجات أربع تتدرج صعوداً وصولاً إلى الفردوس الأعلى حيث ينعم الصالحون بصحبة أهورامازدا ذاته. وكذلك الجحيم يتألف من أربع طبقات إلى الأسفل وصولاً إلى القاع حيث الظلام المدلهم والعتمة المطلقة. 

ومع ذلك، فليس ثمة عذاب أبدى في الزرادشتية، فأهورامازدا، بوصفه خير مطلق، لايرتضي المعاناة الأبدية لأي من مخلوقاته، وإنما يتلقون العقاب لوقت معلوم فقط ينتهي بظهور المُخَلِّص – المسيح – “ساوشيانت” في آخر الزمان “فراشوكيرتي”، حين تعاود كافة الأرواح، بما فيها تلك القابعة في قاع الجحيم، الإتحاد بأهورامازدا من جديد، ويفنى الشر إلى الأبد بتدمير {آنجرامينيو}. 

الطقوس والنص المقدس في الزرادشتية :

أما عن طقوس التعبد لأهورامازدا فكانت تتمثل في إقامة شعائر الطقس الذي عُرِف بإسم {ياسنا } ، بهدف تجديد الإيمان بال” آشا” أي الحقيقة الإلهية وتعاليم الدين، ونبذ ال { دروج} أي الكذب، وتقوية عزائم المؤمنين في كفاحهم ضد قوى الظلام ؛ حيث تنطوي الديانة الزرادشتية في جوهرها على فكرة أساسية مفادها أن العالم مليء بالأرواح غير المرئية، منها أرواح خيرة { أهورا} و أخرى شريرة { دايفا} ، وأن الحياة برمتها عبارة عن صراع بين هذين الفريقين، وبالتالي إذا أراد المرء أن يحيا حياة الخير فعليه أن يكون واعياً تماما لذلك الصراع ولخطورة قوى الشر وأن يحتاط لها كي لا تضله عن طريق الخير، وهنا تتجلى أهمية طقس الياسنا الذي يساعد المؤمنين على الإستمساك بالحق والخير. 

الديانة الزرادشتية

ولطالما لعبت النار دوراً محورياً في تلك الشعائر، حيث تمثل العنصر المقدس في الزرادشتية وآخر المخلوقات التي أوجدها أهورامازدا، بينما كانت المياه، التي ترمز إلى الحكمة، من أولى المخلوقات. 

وفي المعبد، الذي يعرف ب”معبد النار “، كان يتم إشعال النار في المذبح، حيث يقوم الكاهن بتلاوة الكلمات المقدسة وأداء الصلوات في حضرة اللهب المقدس، ثم في ختام الطقوس يقوم بتكريم عنصر المياه من خلال طقس ال {  أب زور } والذي يرمز لتطهير مياه العالم. 

طقوس الجنازات :

لم تنطوي الديانة الزرادشتية على طقوس جنائزية كتلك التي تضمنتها الثقافات الأخرى، حيث يعتبر الانخراط في إظهار مشاعر الحزن أمرا غير لائق لدى أتباع تلك الديانة وإنما كانوا يرون في الموت جزءا طبيعيا من الحياة، ولذلك كانت شعائر الجنائز الزرادشتية عادة ما تتم في هدوء واعتدال، حيث كان يتم إعداد الجثمان للجنازة في منزل المتوفى، مع إقامة طقس هام و أساسي، ألا وهو طقس { سجديد} أي “نظرة الكلب”، وهو الطقس الذي يتمثل في إحضار كلب إلى الغرفة التي يتواجد بها الجثمان لتخويف وطرد الأرواح الشريرة، وفي ذات الوقت للتيقن عملياً من أن الشخص قد مات بالفعل وليس راقداً في غيبوبة [فقد كان الزرادشتيين يعتقدون بأن للكلاب قدرة على إكتشاف ما إذا كان الشخص ميتا أم لا]. 

وبمجرد إنتهاء تلك الطقوس يتم حمل الجثمان إلى خارج المنزل، ولما كانت تعاليم الديانة الزرادشتية تحظر دفن الجثث في الأرض وتعتبر ذلك بمثابة تدنيس لعناصر الطبيعة، فقد كان يتم وضع جثامين الموتى في العراء في مكان مخصص لذلك يُعْرَف ب { أبراج الصمت} ، ويتم تركها للجوارح لتأكلها، حتى إذا ما أمست هياكل الجثث  عارية من اللحم و نظيفة تماما، يتم جمعها ووضعها في مكان مخصص بتلك الأبراج. 

وكانت تلك الطقوس الجنائزية في الديانة الزرادشتية يتم إقامتها بواسطة مجموعة معينة من الكهنة يقومون بالإشراف على كل شئ، بداية من الأزياء المخصصة لذلك الطقس، والشعائر المقامة به، وصولاً إلى النصوص الدينية التي يتم تلاوتها خلاله، وهي :

  • أفيستا 
  • دينكارد 
  • بونداهيسن 

فأما الأفيستا فتشتمل على :  “جازاس”  وهو عبارة عن سبعة عشر ترنيمة تنسب إلى زرادشت نفسه، ” ياسنا” وهي نصوص الصلوات التعبدية، “فيسبيراد” والتي تمثل جزءا منفصلا من الياسنا. وتقول المصادر التاريخية أنه تم تدوين تلك النصوص خلال عهد { شابور الثاني } ( 309-379 ميلادية)، ثم تمت مراجعتها وتنقيحها في عهد { كسرى الأول} ( 531-579 ميلادية). 

كذلك يوجد نص آخر يعتبره البعض جزءا من الأفيستا في حين يرفض البعض الآخر الإعتراف به، ألا وهو ” فنديداد”، وهو عبارة عن نصوص دينية تحتوي فيما تحتوي على الأحكام والشرائع الكهنوتية. 

وأما الدونكارد فهو يتألف من مجموعة من النصوص المتعلقة بالمعتقدات والعادات والأصول الدينية. 

وأخيرا، البونداهيسن، ويشتمل بين جنباته على جغرافيا الكون وعلوم الكونيات من المنظور الزرادشتي. 

القمع والإرث الديني : 

على مدار قرون متعاقبة، كان يتم تناقل النصوص وتعاليم الديانة الزرادشتية شفاهةً، وصولاً إلى مرحلة التدوين، وخلال تلك الفترة، وبالرغم من اعتناق السلالات الحاكمة لإمبراطوريات بلاد فارس لذلك الدين، إلا أنها لم تقم بفرضه على رعاياها، وإنما كانت حرية العقيدة والتسامح الديني من المبادئ الأساسية لدى { قورش الأكبر} وخلفائه من بعده، وكذلك خلال فترة حكم الساسانيين الذين جعلوا من الزرادشتية الدين الرسمي للإمبراطورية، لكنهم لم يمَسّوا روح التسامح التي سادت ربوعهم. 

وتتجلى حرية الفكر الديني والتسامح في العصر الساساني في أوضح صورها من خلال مايعرف ب{الزرفانية} وهي نحلة دينية انبثقت عن الزرادشتية لكنها انحرفت عن أُسسها ، حيث زعمت أن الزمن { زورفان} هو الكيان الأسمى والخالق للكون، بينما أهورامازدا ليس سوى كيان مخلوق، وأنه و  آنجرا مينيو أخوان توأمان متساويان في القوة وفي صراع دائم ضد بعضهما البعض، لكن الزمن هو الذي يحكم كل شئ. 

ولأن الزمن بطبيعته لايمكن إيقافه أو مجابهته، فقد إعتنقت الزرفانية نظرة جبرية تجاه الحياة، على عكس مبدأ الإرادة الحرة التي آمن بها الزرادشتيون. 

ولكن برغم تلك الإختلافات الجذرية بين العقيدتين، إلا أنه لايوجد مايشير إلى وقوع أي اضطهاد بحق الزرفانيين. 

ثم جاء الوقت الذي انقلبت فيه الأحوال وتراجع التسامح الديني ليبدأ عصر الاضطهاد، ولكن ليس ضد الأديان الأخرى وإنما ضد الزرادشتيين. ووقعت أولى موجات الاضطهاد تلك على يد المسيحيين الرومان في القرن الرابع الميلادي، حيث راحوا يشنون الدعوات العدائية ضد الزرادشت، واصمين دينهم بالزيف والكذب، ويخمدون النار المقدسة فيما تطاله أيديهم من معابد. إلا أنهم لم يجرؤوا على فعل ما هو أكثر من ذلك، حيث ما عادوا يملكون لا العدد ولا القوة السياسية الكافية للتمادي في مهاجمة الزرادشتيين في وقت كانت فيه الإمبراطورية الساسانية لاتزال تحتفظ بقوتها وعنفوانها. 

ثم جاءت الموجة الثانية، القاصمة، من الإضطهاد في القرن السابع الميلادي على يد العرب المسلمين الذين تمكنوا من غزو حدود الإمبراطورية الساسانية، والتي كانت قد تدهورت وتداعت أركانها آنذاك، فقاموا بتدمير معابد النار و الأضرحة والمكتبات الزرادشتية، ولم يجد الزرادشتيون أمامهم من بد سوى إما التحول إلى دين الغزاة الجدد أو الفرار من ديارهم أو البقاء في وطنهم ومواصلة عباداتهم الدينية سراً. 

وترى طائفة من الباحثين أن تلك الفترة إنما مثلت خسارة فادحة على الصعيد الفكري بسبب ضياع الكثير من نصوص الديانة الزرادشتية الحيوية خلالها، والتي ربما كانت تتناول أصل الشر ومنشأه. 

ومع ذلك، وبرغم كل ما تعرض له الزرادشتيون، نجت الديانة الزرادشتية من الضياع والزوال بفضل بعض من أتباعها الذين حفظوها من الإندثار حين فروا بأنفسهم وبها إلى الهند، وكذلك هؤلاء الذين بقوا في ربوع إيران و أبقوا على ممارستهم لشعائرها .

وبعد، لاتزال الديانة الزرادشتية حية تُمَارَس حتى يومنا هذا حول العالم؛ والحق أنه بالرغم من الإنكار الصارم من جانب المسيحيين والمسلمين الأوائل لتلك العقيدة ونبذهم لما جاء بها، فإن لركائزها الأساسية أثر واضح على كل من المسيحية والإسلام بل واليهودية كذلك، وكيف لا والديانة الزرادشتية تعد بمثابة أول إيمان توحيدي ينادي بمفاهيم الإرادة الحرة ومسؤولية الفرد عن تحديد مصيره الأخروي والحساب بعد الموت والمسيح المخلص ونهاية الزمن والجنة والجحيم ، وهو ما دفع العديد من الباحثين في الأديان للقول بأن الدين الزرادشتي إنما يمثل بحق مقدمة للأديان اللاحقة وتمهيدا لها.