إن رسالة الغفران للأديب واللغوي والشاعر الفيلسوف النابغ أحمد بن عبد الله المعروف ب أبو العلاء المعري – واحدة من أفضل الأعمال الأدبية العربية على مر العصور، بل والأدب العالمي فهي تسبق الكوميديا الإلهية لدانتي في رحلته إلى العالم الآخر.
كتب المعري رسالة رداً على رسالة وصلته من الأديب الحلبي علي بن منصور المعروف بابن القارح، ورسالة الأخير عُرفت برسالة ابن القارح، أرسلها إلى شيخ المعرة، ذاكراً له فيها أحواله وترحاله، وطائفة من أخباره وعصره ومن فيه من الملاحدة والزنادقة، وفيها مقتطفات من الشعر والحكم والنثر المسجَّع اللطيف. وهي رسالة أدبية ولغوية وشعرية وإخبارية.
يرد المعري على رسالة ابن القارح برسالة مكونة من جزأين الأول، وهو المشهور حين أرسل المعري علي بن منصور ولقَّبه الشيخ في رحلة إلى الجنة والنار والمحشر، وفي الجزء الثاني من الرسالة أجاب فيها عن رسالة ابن القارح، وهي رسالة لا تقل أهمية من الجزء الأول لمضمونها اللغوي والأدبي والشعري والإخباري عن أحوال العصر ورجاله ولا سيما من الملاحدة والمجّان والزنادقة من حلولية وصوفية متطرفة وشعراء فسقة، وقد بلغ حجم هاتين الرسالتين ستة أضعاف رسالة ابن القارح تقريبا.
أعود إلى الجزء الأول من رسالة الغفران لأبي العلاء، إن أهمية هذا النص الأدبي تكمن في اتجاهين رئيسين: الأول قيمته الأدبية والفكرية والآخر أسبقيته وتأثيره. سبق نصُ المعري الكوميديا الإلهية للإيطالي ابن فلورنسا دانتي أليغري، هذا السبق الذي عبّر عنه الشيّخ -وهو علي بن منصور ابن القارح- حين يحاور الشاعرَ عدي بن زيد ويذكر له أن شاعرا عربيا مسلما قد نظم على وزن قصيدة له فيقول الشيخُ لعدي: إلا أنك يا أبا سوادة أحرزت فضل السبق.
والمعري قد أحرز فضل السبق على دانتي. لكن الأمر لا ينتهي في السبق فقط بل والتأثير كذلك، ويفصّل عمّر فرّوخ في كتابه “أبو العلاء المعري (الشاعر الحكيم)” في ذكر التأثير، وأنقل هنا أوجه الشبه والتقليد التي ذكرها فرّوخ ومن أحب الاستزادة في هذا الموضوع ليرجع القارئ إلى الكتاب المذكور، والنقط التي ذكرها فرّوخ:
ولفرّوخ إسهاب في الموضوع أكثر.
وهنا لا يغيب عنا أن المصدر الرئيس لرحلة النيران والجنان مستوحاة ومقتفاة من رحلة الإسراء والمعراج للنبي الأمين (صلى الله عليه وسلم)، التي ذكرها الله في سورة الإسراء، وذكرتها بعض الأحاديث، وقد كثرت الأحاديث الضعيفة والموضوعة والإسرائيليات عن/ في هذه الرحلة، والتي كان لها الأثر الكبير والواضح الذي لا يقبل الشك في أبي العلاء ورسالته وفي دانتي. ويخصص آنخيل جونزاليز بالنثيا في كتابه تاريخ الفكر الأندلسي موضوعا كاملا بعنوان “دانتي والإسلام” كشف فيه ناقلا بحث ميجيل الأستاذ ميجيل آسين بلاثيوس في كتابه “الأصول الإسلامية للكوميديا الإلهية”، وهو بحث شائق، تبرز المطابقة والنقل في الكوميديا الإلهية من المصادر الإسلامية كرسالة الغفران والأحاديث المتعلقة برحلة المعراج المترجمة إلى اللاتينية والبروفنسية التي عثر عليها المختصون، وللإطلاع أكثر الرجوع إلى الكتاب المذكور “تاريخ الفكر الإسلامي”.
نعود إلى قيمة نص المعري الأدبية والفكرية، تبرز قيمة النص من عدة نقاط منها:
أبلغ خليلي عبدَ هندٍ فلا *** زلتَ قريبا من سواد الخُصوص
إلا أنك يا أبا سوادة أحرزت فضل السبق.
أمن قتلة بالأنقا ** ء دارٌ غير محلولة
بأن هذا الشعر لم يصدر عنه.
زعم الهمام بأن فاها بارد ** عذب إذا ما ذقته قلت ازددِزعن الهمام ولم أذقه بأنه ** يُشفي ببرد لثاتها العطشُ الصدي
يستفتح المعري بعد أن قدّم في الرد على رسالة ابن القارح بسرد راوٍ عليم عن رحلة الشيخ في الجنة فيقول:
فقد غُرس لمولاي الشيخ الجليل -إن شاء الله- بذلك الثناء غرسٌ في الجنة لذيذُ اجتناء…
ثم يُكمل بعدها الوصف وما فاز به الشيخ. ونلاحظ هنا أن الرسالة تبدأ بسرد غير متجانس بضمير الغائب يرويه الراوي العليم “أبو العلاء” السارد الخارجي، عن الشيخ الجليل، علي بن منصور الحلبي، وهو يمضي في الجنة يمضي ويرى أحوال أهلها وحالها، ويلتقي الشيخ بعدد من أهل الجنة -سأذكر أسماءهم كاملة وأسماء من التقى بهم الشيخ في الجنة والنار في آخر المقالة- ما بين رجال ونساء وحيوانات وجن وملائكة، ليذكر بعدها لتميم بن أبي قصته في أرض المحشر وكيف شفع له النبي ودخل الجنة، ثم ذهابه ولقائه بأحد الجن وهو الخيتعور ثم رحلته إلى النار ولقائه بعدد من أهلها الشعراء ثم عودته إلى جنته حيث يستلقي الشيخ وسط النعيم والحور وينتهي الجزء الأول من الرسالة.
ومن أحاديث الشيخ ومحاوراته تبرز العديد من العلامات السردية في هذه الرسالة والبنيوية في حبكة النص.
ألا أيهذا السائلي أين يمَّمتَ ** فإن لها في أهل يثرب موعدافآليتُ لا أرثي لها من كلالة *** ولا من حَفًى حتى تلاقي محمدا
إلى آخر الأبيات.
فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ** ليخفى ومهما يُكتمِ اللهُيعلمِ يؤخر فيوضع في كتابٍ فيدخر *** ليوم الحساب أو يعجل فينتقم
من يسألِ الناس يحرموه *** وسائلُ اللهِ لا يخيبُ
ويتدخل الراوي العليم في شرح مقصد شخصيته الرئيسة في النص، كما حدث في حديث الشيخ مع علقمة بن عبدة: “فيقول: أعْزِزْ عليَّ بمكانك! ما أغنى عنك سِمطا لؤلؤك، يعني قصيدته التي على الباء: طحى بك قلبٌ في الحسان طروب والتي على الميم هل ما علِمت وما استودعتَ مكتوم
1- استخدم فيها أسلوب الاسترجاعية وعاد بالزمن إلى الوراء متجاوزا البداية التي ابتدأ فيها المعري السرد حين أوجدَ الشيخ في الجنة. 2- تداخل الأزمنة السردية (الحاضر والماضي عبر الاستذكار) فالقصة تجر بخط زمني كرونولوجي واحد، ثم يتوقف ليرجع الزمن بشكل فرعي إلى الوراء. 3- ظهور مستوى خيالي ثانٍ (هذا ما يمثله تعدد المستويات السردية)، هذا المستوى الخيالي الثاني مثّل نقطة رابط ما بين عالم الجنة وعالم النار في بُنية القصة، وجعل الرحلة مقسمة إلى ثلاثة أقسام، بها اكتملت الصورة واتضحت. فالشيخ مرَّ بالمحشر ثم الجنة ثم النار، لكن أبا العلاء لم يعرضها بشكلها التتابعي بل تلاعب بها وداخل بعضها ببعض زمنيا وسرديا ومكانيا: رحلة الشيخ تبدأ بـ
وهذه الرحلة كما وقعت (لا كما سُردت) حيث يمر الشيخ برحلته بثلاث مراحل، تجري في ثلاث أماكن مختلفة في تتابع زمني.
لكن أبو العلاء يسرد القصة بشكل مختلف، حيث يبدأ برحلة الجنة أولا ثم يغير المكان إلى أرض المحشر تغييرا ذهنيا لا حسيا، وتغييرا زمانيا بقطعه خط الزمان المتصل التقدمي بالعودة إلى الخلف، ثم يعود ليكمل إلى رحلة النار، وتغييرا في مستويات السرد، حيث تصبح قصة/ رحلة المحشر جزء من رحلة الجنة لا منفصلة عنها لها كيانها الزماني والمكاني الخاص، وترتيبها الأولي.
(الرحلة كما سُردت)
(مستويات السرد وتداخلها)
متنوعة الأجناس والأنواع والأشخاص فقد التقى الشيخ بأكثر من ستين شخصا ما بين إنسان (رجل وامرأة) وجن وملاك وحيوان. – متنوعة الأسئلة: فمنها عن الشعر، ومنها عن الأسماء، ومنها عن النحو، ومنها عن نسبة بعض الأبيات إلى الشاعر. – متنوعة الردود: فمنهم من يجيب الشاعر ومنهم لا يجيبه، ومنهم يُقصِّر الجواب ومنهم من يُطيله، ومنهم من نسي شعره ومنهم من يذكره، ورفض بعض الشعراء تذكر أو إنشاد شعرهم لكونهم في الجنة وأنساهم نعيمها الشعر والرغبة في إنشاده، كما فعل الشمّاخ معقل بن ضرار. – توزع الرحلة في أماكن متعددة ما بين الجنة والمحشر والنار، بل وأن الجنة نفسها فيها أماكن متعددة وجنان مختلفة، فهناك جنة لمن التقى بهم الشيخ من شعراء ونحويين ولغويين، وجنة خاصة بالجن، وهؤلاء ليسوا بشباب لأنهم كانوا في الدنيا يحظون بالشباب لزمن طويل جدا، وهناك جنّة خاصة بشعراء الرُّجز. – التأخر في الكشف عن هوية الشيخ حتى منتصف النص وهو الأديب علي بن منصور الحلبي ويشهد توبته في أرض المحشر عبد المنعم بن عبد الكريم قاضي حلب في ولاية صالح بن مرداس، وكان هذا زمن أبي العلاء المعري، إذ استخدم السارد أسلوب الفلاش بلاك المتجاوز لخط وزمن الحدث الأول، وبسرد غير المتجانس يتحدث الشيخ بأسلوب الخطاب المباشر عما حدث له في أرض المحشر وكيف نال الشفاعة. – وجود الأدلاء، فقد حظي الشيخ بدليلين هما عدي بن زيد، وملك من الملائكة حين يسأله الشيخ عن الحور العين فيجيبه: اقفُ أثري لترى البديء من قدرة الله. – كرامات أهل الجنة ومنها الإلهام السريع، وخاصية لأهل الجنة كما يوردها المعري في رسالته، وفيها سرعة استجابة الرب الخالق لأهل النعيم، فيحصلون ما يريدون بلمح البصر، وقد ذكر هذا في أكثر من مرة. وكذلك تحول بعض حيوانات الجنة إلى نساء كما في الحيات والإوز التي يصيرهن الله إلى جواري كواعب يرفلن في وشي الجنة وبأيديهن المزاهر وأنواع ما يُلتمس به الملاهي، كما يصفهم. هذا التنوع يدل على الحبكة الموجودة في النص، وعلى مهارة في الصياغة، وإلا لكانت الأحوال والردود مشتابهة وواحدة، وحال الجميع متقارب، وهذا ما لا يوجد في النص المسرود، ولسردت القصة بشكل تتابع لا كما الشكل التي وردت فيه.