شخصيات
آخر تحديث بتاريخ: 3 سنوات

كافكا الحزين و قصة حبه المأساوية

يعتبر فرانز كافكا (١٨٨٣ – ١٩٢٤م) الكاتب التشيكي الذي يكتب باللغة الألمانية رائدًا للكتابة الغرائبية في العالم؛ تلك الغرائبية التي كانت تشكل مجمل حياته المليئة بالغرابة والقلق والتردد والخوف. كانت الغرائبية سمة من سمات سلوكه اليومي العادي، فجاءت كتاباته متشكلة من هذا المزيج الملتبس القائم في هذه الحياة. من هذا المفهوم المراوغ والحقيقي تشكلت كتاباته التي مست معاناة الإنسان في المجتمع الرأسمالي الذي يفقد فيه الفرد الشعور بالأمان والطمأنينة.

اقرأ أيضاً : في الحرب العالمية .. فلورا ساندس البريطانية التي حملت السلاح و حاربت على الجبهة

آخر ما اختتم به كافكا حياته القصيرة التي لم تتجاوز الأربعين إلا قليلًا كان حدثًا غريبًا أيضًا بدوره؛ حيث أوصى صديقه الحميم ماكس برود أن يحرق جميع كتبه التي ستصبح بعد موته واحدة من أبرز إبداعات الأدب العالمي الحديث في القرن العشرين؛ إذ إن ماكس برود خالف وصية كافكا، وقام بنشر كتبه التي تركت تأثيرها على كتابات قامات إبداعية كبيرة مثل ألبير كامو، وميلان كونديرا، وجوزيه ساراماغو، وصنع الله إبراهيم -من الكتاب العرب- الذي استخدم في رواية «اللجنة» التقنية الكافكاوية، بأبعادها وأجوائها الكابوسية. لو نفّذ ماكس برود وصية كافكا لحرم القرّاء من متعة رواياته، ولما استفاد هؤلاء الكتاب من تقنياته التي ألهمتهم روائع من الأدب العالمي.

كافكا

مؤلفات كافكا التي نشرها ماكس برود فاجأته كثيرًا حيث لاقت رواجًا كبيرًا لم يتوقعه، ولَم يكن يحدث ذلك لولا أنها كانت تحاكي حياة الناس في إيقاعها اليومي القلق؛ إضافة إلى صياغتها عالية الجودة والصدق؛ فكافكا كما يرى النقاد كان يعيش في كتاباته ويتنفس من خلالها. كان كافكا بدوره –مثل أبطاله- يخاف الحياة، ويجدها ورطة للكائن، وامتحانًا عسيرًا لقدراته المحدودة ووعيه الناقص. وتشكلت حياة هذا الكاتب الإشكالي من مجموعة من المحطات المثيرة؛ إذ كان يرى في الحياة ضربًا من المسؤوليات الصعبة التي تحمل الكائن أحمالًا لا طاقة لديه لحملها منفردة، فما بالك بها مجتمعةً.

مع هذه الهواجس والأوهام وجد كافكا نفسه خائفًا وقلقًا كل الوقت، من أمور بعضها واضح وبعضها خفي. وتجلى هذا القلق الدائم في أعراض كان يمر بها هو وأبطاله؛ كما نمر بها نحن؛ لذلك فكافكا يشبهنا، كما نشبهه، وأبطاله قريبون منا وأليفون، ونحن نعرفهم كما نعرف أنفسنا.

كافكا من جانب آخر كان مترددًا في اتخاذ القرارات المهمة في حياته؛ وشخصية قلقة بهذا القدر سترى كل القرارات مهمة وإن كانت صغيرة؛ وفي هذه الحالة ستتحول حياته إلى مجموعة من العذابات القاهرة؛ ألا نشعر بذلك جميعًا، قليلًا أو كثيرًا، وبعض الوقت أو كل الوقت؟ هكذا جاءت شخصيات كافكا مكبلة بكوابيس هذا الواقع الذي نمر به ولا نعرف له مخرجًا أو تفسيرًا. وبوسعنا أن نعدد الكثير من الأمور والحوادث العامة والخاصة التي تدخل ضمن هذا المنظور والسياق، الذي اختبره كافكا، كما اختبرناه وعرفه كافكا كما عرفناه؛ وبخاصة نحن أبناء العالم الثالث.

كافكا

قلق وجودي

ولذلك ف كافكا في عرف النقاد هو واقعي بقدر ما هو غرائبي؛ إذ ذهب في رواياته إلى أماكن موجعة فينا؛ هكذا نتقاطع معه في مخاضات هذا القلق الوجودي والواقعي الذي يجعلنا نخاف كل الوقت من أمور كثيرة قد تحدث لنا في أي لحظة وتدمر حياتنا. وعلى نهج أبطال رواياته عاش كافكا خائفًا من مسؤولية الأسرة التي قد يراها البعض سهلة لكنها في عرف كافكا هي ورطة أو مصيدة يجب تجنب الدخول فيها، والاقتراب منها؛ أليست الأسرة بأبعادها وتفاصيلها الكثيرة مسؤولية كبيرة؟ ومثل أي كائن يعيش في هذه الحياة ارتبط كافكا أو تورط -حسب رأيه – بعلاقة حب مع فتاة اسمها فيليس، وبعد أن تطورت العلاقة بينهما تقحمه فيليس في فكرة الزواج فيرتعب ويتردد وتنتابه حالة من القلق والخوف، وتصبح علاقته بفيليس عبئًا عليه.

وتحت ضغط فيليس يتقدم لخطبتها، فيتضاعف قلقه، ويفكر في فسخ الخطبة، لكنه يخاف من فسخها، كما يخاف من تثبيتها. ولأنه يحب فيليس فلا بد من الاستمرار في الخطبة، ومن ثم الزواج، فالأطفال.

ويقوده قلقه وتردده إلى التفكير في فسخ الخطبة، فيفعل؛ ولا ينتهي القلق لأنه سيخسر فيليس التي يحبها والتي منحته السعادة بعض الوقت، فيعود إلى خطبتها مرة أخرى، ويعود إلى مخاوفه مرة أخرى، وتتحول هذه العلاقة السارة إلى علاقة مقيتة فيقرر فسخ الخطبة مرة ثانية؛ وتنتهي هذه العلاقة بالقطيعة التامة. كان كافكا يحب العزلة ككل المبدعين، فهي تأخذه للكتابة التي وجد فيها قارب نجاة ومحطة تمنحه بعض السلوى، لكنها كانت تهرب منه أغلب الوقت وإن أخلص لها وابتعد من ملذات الحياة من أجلها؛ لذا لم يكن كافكا غزير الإنتاج مثل الكثير من الكتاب العالميين، وترك خلفه كتبًا قليلة لكنها أحدثت ضجيجًا عاليًا استمر زهاء قرن واحد؛ حتى هذه اللحظة، ما زالت الأجواء الكافكاوية تسم الكثير من الإبداعات الروائية في كل القارات.

عاش كافكا حياة قصيرة ومات على مشارف الأربعين، بمرض السل. مات وهو يعتقد أنه كاتب غير جدير بالقراءة. كان دائم الشك في موهبته، وحملته ظنونه إلى الاعتقاد أن ما يكتبه ليس ذا أهمية للآخرين؛ فالكتابات القليلة التي نشرها قبل مماته لم تلقَ رواجًا ولا اهتمامًا من القرّاء. وهذا الشك فيما يكتب هو الذي دفعه لأن يطلب من صديقه الناشر ماكس برود أن يحرق كتبه. وضاعفت حبيبته فيليس من شعور الخيبة لديه؛ إذ كانت تقرأ مخطوطاته ولا تطريها كما تفعل مع الكتاب الآخرين الذين كانت تطريهم في مراسلاتها معه. وكان ذلك يعزز اعتقاده بأن ما يكتبه غير صالح للنشر.

اجمل ما كتب كافكا

أشهر كتب كافكا روايتا «المسخ» و«المحاكمة»؛ لكن المحاكمة حملت دلالات فكرية ورمزية أكثر اتساعًا؛ إذ غطت مساحات واسعة من معاناة البشر في ظل قوانين جائرة، تحت هيمنة سلطة تسعى إلى تدميرهم وتحقيرهم.

الرواية كتبت في بدايات القرن العشرين، وحملت آثار الثورة الصناعية في الغرب وأضرارها التي بدأت في بواكير القرن الثامن عشر، وقد اكتملت وحشية الرأسمالية وقوانينها الجائرة في الحقبة التي عاش فيها كافكا، فلاحظ وعايش جور المؤسسات الرأسمالية التي تسحق الفرد وتهدد لقمة عيشه وتسمم وجوده. عمل كافكا في شركة تأمين، وكان يرى أحوال العمال والمستخدمين في المؤسسات التي يعاينها، وصنوف معاناتهم اليومية المستمرة وقلقهم وخوفهم من رؤسائهم، وشاهد في جولاته على المؤسسات والمصانع أشكال الانسحاق والجور؛ وشعر بأن هذا العالم تتحكم فيه قوى شرسة، تصيغ قوانينه لصالحها. وذات يوم يستيقظ «جوزيف ك» بطل رواية «المحاكمة» على صوت أشخاص غرباء ذوي سحنات قاسية يطلبون منه الذهاب معهم، ليواجه محاكمة على تهمة لا يعرفها، تهمة غير محددة، وغامضة.

تعرف على سيرة حياة زوج ملكة بريطانيا الأمير فيليب.. ثالث أكبر المعمرين بالأسرة الملكية البريطانية

مسلوب الإرادة والهوية

ويحاول «جوزيف ك» أن يفهم سبب اعتقاله لكنهم لا يوضحون له السبب، ويحاول أن يثبت براءته، ولكنه لا يعرف كيف يدافع عن نفسه لأنه لا يعرف تهمته. ويقف بطل الرواية «جوزيف ك» أمام قضاة يعرف سلفًا أنهم لا يستمعون إليه، ولا يكترثون لأقواله، ويشير كافكا إلى بطل الرواية بحرف الكاف للإيحاء بأن بطله مسلوب الإرادة والهوية، ولا اسم واضح له؛ لأن وجوده غير محدد. إن «جوزيف ك» هو ترس في آلة ضخمة تدور وتطحن حياته؛ وهو حرف أو رقم، نكرة أو سجين لا أهمية له.

ويدخل «جوزيف ك» في متاهة مظلمة، لا نهاية لها، ويشعر بالغبن والانسحاق والدونية والإحباط، فالتهمة كبيرة رغم أنها غير واضحة، فيتبلبل، ويتيقن أنه يعيش في عالم عبثي ظالم، يتلاعب فيه أشخاص غامضون بحياته، وهم يصوغون له سبل العيش بالطريقة التي يريدونها، لا كما يريدها هو، وما يريدونه فيه الكثير من العذاب والمعاناة له ولأمثاله، وليس له إلا أن يتقبل مصيره، وألا يعترض، وأن يسلم بالأحكام والقوانين التي يفصلونها بمقاييس تخدم مصالحهم.

إنه عالم بغيض ومخيف وظالم ولا قيمة أو أهمية للإنسان فيه. وكأن كافكا الذي كتب هذه الرواية في بداية القرن العشرين يتنبأ بما سيجري في العالم الثالث -الذي لا ينتمي إليه- في أواسط القرن العشرين ونهايته، حتى بواكير القرن الحادي والعشرين. إنها رواية لكل العصور، ولكل الأمكنة، وتعني البشر في كل القارات، وتتطابق حيثياتها ومناخاتها مع ما يجري على وجه الخصوص في بلدان العالم الثالث التي تغيب فيها الحرية والديمقراطية، وحقوق الإنسان.

إنها رواية المجتمع الرأسمالي في الغرب الذي ينتمي إليه كافكا، وهي رواية بلدان أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا والوطن العربي، فالمكان في الرواية غير محدد ولا الزمان، والإبهام يلف الرواية حتى النهاية، فتتعدد تفسيرات القرّاء ويتنوع فهمهم، وربما يصوغ كل قارئ روايته. ويستخدم كافكا تقنية تعتمد على الإبهام والغموض، فيتعدد التأويل، ويتعدد الفهم، ويتنوع التفاعل، ويختلف التحليل.

بدأت الصيغة الكافكاوية مع بواكير القرن العشرين لكنها ما زالت تترسخ مع بداية القرن الحادي والعشرين؛ حيث أصبحت هذه الصيغة الروائية الغرائبية المليئة بالفانتازيا والكوابيس ثيمة رئيسة في الرواية العربية الجديدة التي تكتبها أجيال من الروائيين العرب الشباب؛ الذين تنبهوا إلى أن العالم العربي، لا يزال يعيش في متاهة دامية تسحق الإنسان حتى العظم، وأن لا سبيل إلى تجسيد هذه الأحداث والكوارث الواقعية إلا بالغرائبية والفانتازيا واللامعقول؛ أليس الواقع العربي أغرب من الخيال واللامعقول؟ «جوزيف ك» بطل رواية «المحاكمة» وضحيتها هو رمز لملايين يشبهونه.

وكافكا بهذه التقنية التي توحي ولا توضح، وترمز ولا تكشف، يجسد لنا ضراوة المأساة الإنسانية في هذا العالم الذي تتحكم فيه القلة وتدير شؤونه، وتتوزع ثرواته. وفي رواية «المسخ» التي لاقت رواجًا كبيرًا أيضًا، يستيقظ «غريغوري سامسا» بطل الرواية الموظف في شركة ليذهب إلى عمله فيكتشف أنه تحول إلى حشرة كبيرة، ويحاول سامسا أن ينهض من سريره لكنه لا يستطيع، ويحاول أن يرفع صوته فتصدر منه همهمات حيوانية، وأول ما يفكر فيه وهو في هذه الحالة هو الخوف من التأخر عن ميعاد العمل وغضب مديره، وخطورة ذلك على معيشته، ومصير أسرته، فهو عائلها الوحيد، ولكن أسرته التي تعتاش من راتبه تتخلى عنه عندما تراه في هذه الحالة المرعبة.

الإيحاءات واضحة في الرواية، لكن صنعة كافكا ولغته تبتعد من الآلية والمباشرة، وتترك المجال للخيال والتأويل والرمز، فيشعر القارئ أن ما يحدث هو حقيقي وواقعي. غريغوري سامسا إذن يعيش في هذا العالم الذي تصوغه العلاقات المادية، وتهدد فيه المؤسسات مجمل حياته واستقراره، وتتخلى فيه عنه عائلته عندما يصبح غير نافع لها ومخيفًا.

غريغوري سامسا الذي تحول إلى حشرة، كان يشعر بالدونية والحيوانية قبل هذا التحول في أجواء المكاتب الحديثة التي تحقق منافع وأرباح الأقوياء والمتسلطين، في ظل الرأسمالية البشعة التي تصوغ حياة البشر على الهيئة التي تضاعف أرباحها. غريغوري سامسا هو نحن جميعًا من دون استثناء، وهو قرين لـ«جوزيف ك» بطل «المحاكمة». وأختتم هذا المقال ببعض أقواله التي تضيء ما ذهبنا إليه:

الحياة حرب مع نفسك، حرب مع ظروفك، حرب مع الحمقى الذين خلقوا هذه الظروف…عندما أنهي ما أكتبه أكتشف أنه مجرد بداية صغيرة لما أريد قوله…الكتابة هي جرح مفتوح…لم أظفر في حياتي بثانية واحدة من الهدوء…لم يحدث أن كنت قادرًا على الاختيار بين مسألتين: ما أريده الآن لا أريده في اللحظة التالية.

كافكا: المعذب البائس و قصة حبه

كان هيرمان، والد كافكا، رجل أعمال يُوصف بأنه طاغية ومستبد، وكان غير موافق على سلوك ابنه طريق الأدب والكتابة. كتب له كافكا رسالة طويلة بعنوان «رسالة لأب»، بث فيها كل مشاعره و معاناته التي عاشها معه منذ طفولته، لكنه لم يرسلها إليه. وتعد هذه الرسالة من أهم المداخل نحو فهم أعمق لشخصية كافكا. في رسائله لميلينا، يتحدث كافكا عن هذه الرسالة فيقول:

ما أخافه وعيناي مفتوحتان على اتساعهما، بعد أن غرقت في أعماق خوفي، عاجزًا حتى عن محاولة النجاة، هو تلك المؤامرة التي تقوم في داخلي ضد ذاتي، تلك المؤامرة وحدها هي ما أخشاه، وهذا ما ستفهمينه بصورة أوضح بعد قراءة رسالتي إلى أبي، وإن كنت لن تفهمي ذلك منها تمام الفهم مع ذلك، لأن تلك الرسالة قد وجهت في إحكام بالغ نحو هدفها.

كان والده كذلك عصبي المزاج، وغالبًا ما كان يوجه جامّ غضبه على ابنه كافكا؛ ما أحدث أثرًا سيئًا عليه منذ طفولته الأولى، وهو ما يتبدى في خوفه الشديد ومقته في نفس الوقت للمدرسة – كما يحكي ذلك لميلينا في إحدى رسائله إليها- و يتجلى كذلك في استصغاره لنفسه وإذلالها، وفي شعوره بالحزن والكآبة اللذين رافقانه طيلة حياته.

كافكا

حياته الاجتماعية لم تكن تسير على ما يرام، فقد خطب مرتين (أو ثلاث مرات بالأحرى، حيث خطب فتاة منهما مرتين) لكنه في كل مرة كان يفسخ العقد، وربما كان ذلك بسبب قلقه ومرضه. فمن المتفق عليه عمومًا أن كافكا عانى من الاكتئاب الإكلينيكي والقلق الاجتماعي طوال حياته، كما عانى من الصداع النصفي، والأرق وغيرها من الأمراض التي تأتي عادة بسبب الضغوط والإجهاد المفرط، وذاك هو السبب ذاته الذي كان يمنعه في وقت لاحق – بالإضافة إلى أسباب أخرى- من زيارة ميلينا في فيينا (لكنه زارها فيما بعد بالرغم من التعقيدات العديدة والإنهاك الذي أصابه جراء السفر).

لقاء في المقهى

في بداية الخريف في شهر سبتمبر/أيلول من العام 1919، وفي مقهى في براغ، كان اللقاء الأول بين فرانز كافكا والشابة ميلينا يزينسكا، حيث اقترحت عليه مباشرة ترجمة أعماله من الألمانية التي كان يكتب بها إلى اللغة التشيكية، فكانت بذلك امتدادًا له، كأنها «كافكا» آخر يتجول في شوارع فيينا.

بعد لقائهما بدءا بالتراسل. كتب كافكا ما يقرب من 149 رسالة وبطاقة بريدية. 140 رسالة منها كتبت خلال فترة لا تزيد عن 10 أشهر، من مارس/آذار إلى ديسمبر/كانون الأول من العام 1920، بمعدل يصل أحيانًا إلى أكثر من رسالة في اليوم الواحد. أما الرسائل المتأخرة فتعود إلى العامين 1922 و1923.

كانت ميلينا تتميز بمميزات عدة، فقد كانت آنذاك امرأة شابة متزوجة مثقفة وفي بداية مشوارها كصحفية وكاتبة قصصية ومترجمة، وعلاوة على ذلك فهي مسيحية، مما كان يعتبر في نظر كافكا اليهودي مشكلة مثقلة بالتعقيدات النفسية، ويظهر ذلك جليًا في احتقاره لنفسه لأنه يهودي رغم علمه أن هذا الأمر لا يمثل مشكلًا كبيرًا لميلينا (كون زوجها يهوديًا)، بل يمثل مشكلة له هو مع نفسه، وبالإضافة لطبعه القلِق، فهو يستصغر نفسه أمام كل شيء، فما بالك بالحبيبة التي قدرها في قلبه لا يضاهيه قدر أي شخص آخر، بما في ذلك نفسه؟.

ميلينا، أنت بالنسبة لي، لست امرأة، أنت فتاة، فتاة لم أر مثلها أبدًا من قبل، لست أظن لهذا أنني سأجرؤ على أن أقدم لك يدي أيتها الفتاة، تلك اليد الملوثة، والمعروقة، المهتزة، المترددة، التي تتناوبها السخونة والبرودة. أتعلمين يا ميلينا، إنك عندما تذهبين إليه (يقصد زوجها) فإنك بذلك تخطين خطوة واسعة إلى أسفل بالنسبة لمستواك، لكنك إذا خطوت نحوي فسوف تتردين في الهاوية، هل تدركين ذلك؟.

قد يبدو أن هذه الطريقة في الحط من قدر نفسه إنما هي زيف فقط، كمن يقلل من شأنه عندما يتلقى مديحًا (كما كان الحال مع دوستويفسكي مثلا)، لكن بالنسبة له، فهذا الشعور بالنقص من الآخرين واستصغاره لنفسه والحط من قدرها حقيقة وطبع فيه، وقد كتب إلى ميلينا في أحد رسائله يشرح لها ذلك.

اقرأ أيضاً : أغريبينا الصغرى أم فعلت المستحيل ليصبح ابنها امبراطور فقتلها


من عاشق سعيد إلى محب يائس

ونحن نقرأ رسائل كافكا التي وصلت إلينا نجد تدرجًا ملحوظًا في حدة العواطف وميلها إلى البرود مع كل رسالة جديدة. ففي بداية الأمر يتبدى جليًا شعور كافكا بارتياح غريب – غريب على من مثله في بؤسه وقلقه أن يحسه- فهو وربما للمرة الأولى تزايله كل أحزانه وتنتعش روحة المتعبة رغم مرضه الجسدي.

الآن فقط انقطع المطر الذي دام سقوطه يومين وليلة، مع أن انقطاعه قد لا يستمر سوى لحظة، لكنه مع ذلك حدث يستحق أن يحتفل به المرء، وهذا ما أفعله بالكتابة إليك. إنني أعيش هنا في خير حال، ولا يطيق الجسد الفاني مزيدًا من العناية، وتطل شرفة غرفتي على حديقة محاطة بسور، تزدهر فيها الشجيرات المزهرة، وتتعرض شرفة الغرفة لأشعة الشمس، تزورني في الغرفة السحالي والطيور وأنواع مختلفة من الكائنات، تزورني أزواجًا أزواجًا، إنني أرغب رغبة شديدة في أن تكوني هنا.

وبخلاف الرسائل العادية التي ترسَل للاطمئنان على حال شخص ما أو لغرض الإخبار بشيء، فإن كافكا لم يكن يكتب رسائله لا لهذا الغرض و لا لذاك، بل كان منكبًا على نقل أحداث يومه بشكل حرفي إلى ميلينا، مشاطرًا إياها مشاعره وكأنها تشاركه نفس المكان، وذلك ما يعبر عنه في غير ما مرة.

ما شكل تلك الشقة التي كتبت لي منها يوم السبت؟ هل هي فسيحة وخالية؟ هل أنت وحيدة؟ نهارًا وليلًا؟ لا بد أن يكون هذا محزنًا حقًا. على الرغم من صغر حجرتي، فإن ميلينا الحقيقية، تلك التي زايلتك صراحة يوم السبت، توجد معي هنا، وصدقيني إنه شيء رائع جدًا، أن أكون معها. ستكون كذبة بالنسبة لي لو قلت إنني أفتقدك، إنه السحر الكامل، المؤلم، إنك توجدين هنا مثلما أنا هنا، إن وجودك مؤكد أكثر من وجودي، إنك تكونين حيث أكون، وجودك كوجودي، و أكثر كثيرًا من وجودي في الحقيقة.

لكن الإحساس بالسعادة والارتياح لا يدوم طويلًا مع كافكا، فها هي الغيرة تنخر قلبه، ويبدأ كل منهما في إلقاء اللوم على الآخر، كانت كثيرًا ما تلقي اللوم عليه لخوفه الشديد، غير المبرر في كثير من الأحيان، والذي أصبح مسيطرًا عليه حتى أصبح كـتهديد دائم له.

إنني أرتعش فحسب تحت وطأة الهجوم، أعذب نفسي إلى درجة الجنون. في الحقيقة، حياتي، وجودي، إنما يتألف من هذا التهديد السفلي، فلو توقف هذا التهديد لتوقف أيضًا وجودي. إنه طريقتي في المشاركة في الحياة. فلو توقف هذا التهديد، سأهجر الحياة بمثل سهولة وطبيعية إغلاق المرء لعينيه.

مع ازدياد عدد الرسائل، تزداد نوبات الاحتقار الذاتي لدى كافكا والتقليل من شأن نفسه، ويبدأ جلد الذات ومحاولة العودة إليها، ويبدأ كذلك تحليل الأمور ورؤية المآل الذي لا مفر منه.

يجب أن تتدبري أنت أيضًا يا ميلينا، نوع الشخص الذي خطا نحوك، إن رحلة الثمانية والثلاثين عامًا تستلقي خلفه، ولما كنت يهوديًا فإن الرحلة في حقيقتها أطول بالفعل من ذلك، فلو أنني عند منعطف عارض تبدى لي في طريقي، قد رأيتك، أنت التي لم أتوقع أن أراك مطلقًا، وأن تجيء رؤيتي لك فوق ذلك متأخرة إلى هذا الحد، عندئذ لا يمكنني يا ميلينا أن أصبح ملوحًا لك، و لا أن يهتف لك شيء في داخلي، و لا أن أقول آلاف الأشياء الحمقاء التي لا أجد لدي شيئًا منها، وأحذف الحماقات الأخرى التي أحس أن لدي منها ما يزيد عن حاجتي.

وكما يظهر في رسائله، فإن ميلينا هي الأخرى كانت متقلبة المزاج وقلقة قلقًا يشبه أو ربما يفوق قلق دوستويفسكي (ولا عجب فإنه كان كاتبها المفضل)، بسبب الأجواء العصيبة التي سادت الأوساط الأدبية في فيينا في تلك الفترة، وربما بسبب تأثيره هو أيضًا، كما لو أن المعاناة هي ذلك السلك الرفيع الذي يربطهما، حتى أنها بدأت تتوهم أنها مصابة بمرض الرئة مثله، حتى سقطت فريسة له حقًا. هنا يكتب إليها كافكا كما لو كان هو المصاب، ويصل إحساسه باليأس حدًا لا يطاق:

وهكذا فأنت تشعرين بالمرض كما لم تشعري به منذ عرفتك؟ وهذه المسافة التي لا يمكن اجتيازها، بالإضافة إلى آلامك لتجعلني أشعر كما لو كنت أنا في حجرتك وأنك لا تكادين تتعرفين علي، وأنني أتجول بلا حيلة ذهابًا وجيئة بين الفراش والنافذة، وأحدق في السماء الكئيبة التي بعد كل مرح السنوات المنقضية وبهجتها، تتبدى للمرة الأولى في يأسها الحقيقي، عديمة الحيلة، مثلي تمامًا.

قلق ميلينا كان في تزايد أيضًا بسبب علاقتها بزوجها أرنست التي كانت في طور الانهيار. يتردد ذكر اسم زوج ميلينا في الرسائل المتأخرة، حيث يظهر آنذاك جلاء الحقيقة واستحالة بلوغ علاقتهما أية غاية سعيدة.


كافكا

حب من نوع آخر

في رسائل كافكا يظهر حب من نوع غريب ونادر، إنه ذلك الذي يجعلك تكتشف نفسك، وتراها على حقيقتها، كأنما قد وقفت إلى مرآة، وهذا النوع من الحب هو سكين ذات حدين، إذ كما لك الامتياز في أن تكتشف في نفسك ما لم تكن تعرف قبلًا، فإنه في ذات الوقت تتجلى عيوبك أمامك كلها واضحة، في مقابل صفات الآخر المتناهية الجمال.

إنني أعيش في قذارتي، فهذا هو ما يشغلني، لكن أن أجرجرك إلى داخلها أيضًا، فهذا شيء مختلف تمامًا. إن الشيء المزعج هو شيء بعيد بالأحرى حيث أنني من خلالك أصبح أكثر وعيًا بقذارتي على نحو زائد، ومن خلال وعيي يصبح الخلاص أكثر كثيرًا في صعوبته.

رسائل كافكا هذه الفريدة من نوعها تكشف لنا معدن هذا العاشق، الذي لم يمر على معبد المرأة كما مر أسلافه وخلفه من العشاق، كان حالة خاصة متفردة. ورغم النهاية التي تبدو مألوفة في مثل هذه القصص، لكن أحداثها لم تكن عادية ومألوفة، كون من نسج خيوطها شخص غريب، محب، بائس، جمع المتناقضات في شخصيته، وترك لنا رسائل بديعة نستمتع بقراءتها إلى اليوم!.

رسائل إلى ميلينا (الجزء الأول)- بقلم الروائي التشيكي فرانز كافكا/ كتاب صوتي